info@kazima.org +(00) 123-345-11

ذكر الصحابي حسان بن ثابت في الكويت

بقلم : د.يعقوب يوسف الغنيم

  • شـاعر الرسـول اختلـف شعـره كثيراً بعد إسلامـه ونظــم القصـائد في مدحـه صلى الله عليه وسلم والـردّ على أعـداء الإسـلام شعـراً بشعر
  • قصـائد حسان كانت ولاتزال في مجالس أهل الكـويت منذ لقاءات «المالـد» يرددون المدائح النبـوية الشعرية بنغمـات درجوا عليها
  • حكاية طريفة بطلها الملا عبدالعزيز العنجري مع حبه لشعر حسان تعد من حقائق الزمان في الكويت وتدل على الاهتمام بالشعر العربي في الأمد البعيد
  • سادت المدارس الأهلية في الكويت وازداد عدد الكتاتيب وشملت مختلف المناطق قبل أن ينشأ التعليم النظامي بقيام المدرسة المباركية 1911 – 1912

لم يخطر ببالي أن ذكر الشاعر الصحابي حسان بن ثابت قد يغيب عن ذهن أحد من أبناء الكويت فيما مضى، حين لم يكن الحصول على ديوانه الشعري سهلا، ولم تكن الكتب التي جرى تأليفها عنه متيسرة بين الأيدي، وذلك لأنه كان محبوبا بين الناس، فهم يذكرون له قصائده الكثيرة التي دافع بها عن الإسلام والمسلمين، وشعره الذي قاله في الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه أُطلق عليه لقب: شاعر الرسول، وأثنى على شعره جميع المهتمين بالشعر العربي القديم منذ أوائل العلماء الذين ألفوا في نقد الشعر وعروضه، والمقارنة بين الشعراء. وقد عده كل هؤلاء واحدا من كبار الشعراء في الجاهلية والإسلام.

ولقد كان من المبادرين إلى التصديق برسالة الرسول الكريم منذ أن سمع بها. وفي هذا الشأن روى الأصفهاني صاحب كتاب «الأغاني» حكاية عنه تدل على مبادرته إلى اعتناق الإسلام مبكرا، فقال: «إني لغلام يفعة (في مقتبل العمر)، ابن سبع سنين أو ثماني سنين، إذا يهودي بيثرب (المدينة) يصرخ ذات غداة (ذات صباح) قائلا: يا معشر يهود، فلما اجتمعوا، قالوا: ويلك مالك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به هذه الليلة» قال حسان: «ثم أدركه (هذا) اليهودي ولم يؤمن به».

ولعل هذه الحادثة هي التي دفعت به إلى تقبل الإسلام بعد أن بقي أثرها في ذهنه وهو صبي، حتى كبر وسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم. وحسان بن ثابت من مواليد سنة 540م، وكانت نشأته في المدينة المنورة، ولهذا فهو شاعر مخضرم بين عصرين هما: ما قبل الإسلام، وما بعده.

ذكره محمد بن سلام الجمحي في كتابه: «طبقات فحول الشعراء» باعتباره أول شاعر في طبقته، وقد عده من شعراء القرى؛ لأنه كان يعيش في المدينة. وقد امتدح شعره، وتحدث عن أسرته فقال: «كان أبوه ثابت بن المنذر بن حرام من سادة قومه، وأشرافهم، وكان المختلفون من الناس يجعلونه حكما بينهم عند كل خلاف».

وقدم ابن سلام أمثلة من شعر حسان، وقال: «ومن شعره الرائع الجيد ما مدح به آل جفنة (من غسان) ملوك الشام» ثم قدم أبياتا مختارة مما قاله من شعر. وأجمع رواة الشعر ونقاده القدماء على تميز شعر حسان بن ثابت. ووردت عنه عدة شهادات بهذا الشأن، ومن ذلك ما قال أبو عمرو بن العلاء عنه انه: أشعر أهل الحضر، وقال الأصمعي عنه إنه أحد فحول الشعراء.

أما بعضهم فقال إن شعر حسان قد دخله اللين بعد الإسلام، وعندما علم الشاعر بهذا رد قائلا: «يا ابن أخي، إن الإسلام يحجز عن الكذب، وإن الشعر يزينه».

ومع ذلك فقد كان متفوقا في كل أغراض الشعر، ترك بعد وفاته آثارا من شعره لا تنسى، وكانت ردوده على شعر الشعراء المعادين للدعوة الإسلامية شعرا قويا معبرا ومسكتا لكل ناعق منهم، ويكفيه أن ذكره لا يزال سائرا بيننا إلى اليوم، وقد صدرت عنه في عصرنا هذا دراسات كثيرة يجدها من أراد أن يطلع عليها في كتب مطبوعة ومنشورة. أما ديوانه فقد طبع في أكثر من طبعة، وكلها طبعات محققة ومعتنى بها.

وصف الصورة

وصف الصورةحسان بن ثابت



ولحسان بن ثابت صلات قديمة بالشام حين كان يسكنها أولئك القوم الذين زارهم مرارا، وأقام بينهم فترات من عمره لا ينساها أبدا، وهم حكام الشام في ذلك الوقت بنو جفنة الغسانيون، ولطالما تذكر أيامه معهم، ووصف الجمال وهي تخترق تلك الأماكن التي تؤدي إليهم حاملة النساء الجميلات، ومنهن تلك التي سماها (شعثاء)، التي خاطبها قائلا: إنه قد حلف يمينا ألا يتغير عن عهده لها. ولا يلتفت إلى حب فتاة سواها، وأكد ذلك بالحديث عن نفسه ذاكرا أنه يتصف بالوفاء، وحسن التعامل مع الآخرين، ويسعى إلى إقامة الصلات الحسنة مع الصديق والجار يقول:

أنظــر خليلي ببطن جلـق هل تؤنس دون البلقاء من أحد

جمال شعثاء قد هبطـن من الـ محبس بين الكثبان فالسند

يحملن حوًّا حور المدامع في الـ ريط وبيض الوجوه كالبرد

ثم يقول:

تقــول شعثاء: لو تفـيق من الـ كأس لألفيت مثري العدد

أهوى حديث الندمان في فلق الـ صبح وصوت المسامر الغرد

يأبى لي السيــف واللسان وقو م لم يضاموا كلبدة الأسد

لا أخـدش الخدش بالنديم ولا يخشى جليسي إذا انتشيت يدي

هكذا تحدث… ولكنه اختلف كثيرا عن ذلك بعد أن أنار الإسلام المدينة وأسلم، وصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازما له سامعا ومطيعا، ومدافعا بشعره عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى لقد أطلق عليه – كما قلنا – لقب: شاعر الرسول.

لقد كانت له قصائد كثيرة في مدحه صلى الله عليه وسلم، وفي الرد على أعداء الإسلام شعرا بشعر، وعندما توفي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان حزن حسان بن ثابت شديدا، وأثر الوفاة في شعره ظاهرا، وقد قال عدة قصائد في رثائه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله:

تالله ما حملت أنثى ولا وضعت مثل النبي رسول الرحمة الهادي

ولا برا الله خلقا من بريته أوفى بذمة جار أو بميعاد

من الذي كان نورا يستضاء به مبارك الأمر ذا حزم وإرشاد

مصدقا للنبيين الألى سلفوا وأبذل الناس للمعروف للجادي

يا أفضل الناس إني كنت في نهر أصبحت منه كمثل المفرد الصادي

وكان مما قاله في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته:

أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهـود يلـوح ويشهـد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن: أشهد

وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود، وهذا محمد

نبي أتانا بعد يأس وفترة من الرسل، والأوثان في الأرض تعبد

فأمسى سراجا مستنيرا وهاديا يلوح كما لاح الصقيل المهند

٭ ٭ ٭

ولحسان بن ثابت حكاية جرت أحداثها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.. وكان ذلك – على التحديد – في زمن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي حكاية طويلة موجزها أن جبلة بن الأبهم الغساني آخر ملوك آل جفنة، كان قد جاء من الشام إلى المدينة المنورة مسلما، ولكنه سرعان ما عاد إلى دينه الأول إثر حادث حدث له مذكور في كتب التاريخ.

أما ما يتعلق بالحكاية المشار إليها، وصلتها بحسان بن ثابت فإنها تبدأ حين أرسل سيدنا عمر بن الخطاب رسالة إلى ملك الروم الذي أحسن استقبال حاملها، ثم قال له:

– هل رأيت ابن عمك. إنه هنا عندنا فالقه.

وكان الرجل الذي قصده هرقل هو جبلة بن الأبهم، فأتجه الرجل إليه، وتحدث للخليفة عن حسن استقباله له. ووصف مجلسه وذكر حديثه معه. ثم جاء في نهاية الجلسة ذكر حسان بن ثابت، وكان سبب ذكره أن جبلة أحضر في مجلسه بعض المغنيات فغنين بشعر قاله هذا الشاعر في زمن سابق، ومنه:

لمن الدار أوحشت بمعان بين أعلى اليرموك فالخمان

إلى أن يقول:

قد دنا الفصح فالولائد ينظمـ ن سراعا أكلة المرجان

ذاك مغنى من آل جفنة في الد هر، وحق تعاقب الأزمان

قد أراني هناك حق مكين عند ذي التاج مجلسي ومكاني

وعندما توقف الغناء سأل جبلة ضيفه: أتعرف هذه المنازل؟

قال: لا. فقال: هذه منازلنا في ملكنا باكناف دمشق، وهذا شعر ابن الفريعة: حسان بن ثابت (الفريعة: أم حسان). وبانتهاء هذه الجلسة، وقبل أن يغادر الضيف مكانه أعطاه جبلة بن الأبهم خمسمائة دينار، وخمسة أثواب من الحرير، وقال له: ادفعها إلى حسان، وأقرئه مني السلام.

وعاد المرسل إلى المدينة، وأبلغ سيدنا عمر بن الخطاب بكل ما حدث، فاستدعى حسان بن ثابت إليه، فجاء وهو كبير السن مكفوف البصر. وحال دخوله قال:

– يا أمير المؤمنين إني لأجد أرواح آل جفنة، فقال عمر رضي الله عنه:

– قد نزع الله تبارك وتعالى لك منه على رغم أنفه، أتاك بمعونة. فأخذها، واستعد للانصراف، ولكنه توقف لكي يقول لحامل الهدايا:

– ما كان خليلي ليخل بي. فما قال لك؟

فرد عليه قائلا:

– قال إن وجدته حيا فادفعها إليه، وإن وجدته ميتا؟ فاطرح الثياب على قبره، وابتع بهذه الدنانير إبلا فانحرها على قبره.

فقال حسان: ليتك وجدتني ميتا ففعلت ذلك بي.

لقد وجد أن هذا العمل سيبقى مذكورا بين الناس دهرا طويلا ينبئ عنه، ويذكر به، وبآل جفنة الذين أحبهم ومدحهم، فلم ينسه بقيتهم: جبلة بن الأبهم على الرغم من مرور السنين على فراقه.

٭ ٭ ٭

ولعل ملازمة حسان بن ثابت للرسول صلى الله عليه وسلم، وصدق إيمانه، واقتصاره بشعره – بعد أن أسلم – على الدفاع عن الإسلام، والرد على المعادين من الشعراء الذين كانوا ينالون منه في شعرهم. لعل ذلك كله من أهم ما حفظ ذكره، وجعل الناس تهتم به جيلا بعد جيل حتى يومنا هذا.

وفي الكويت كان أهلنا – في الماضي – يهتمون به وبشعره، وهم مستمرون على اهتمامهم هذا منذ زمن طويل ولا يزالون كذلك.

ولقد كانت قصائده تتردد في مجالسهم، وفي اللقاءات التي يطلق عليها اسم (المالد)، وهي جلسات كان يحضرها عدد من المهتمين يرددون فيها المدائح النبوية الشعرية بنغمات درجوا عليها، وكان بعضهم يتكون من مجموعات متجانسة لها منشد يرفع صوته بالنشيد، والجالسون من أصحابه يعيدون وراءه ما يقول، وهم يفعلون ذلك بحضور عدد آخر من المستمعين الذين يستهويهم سماع هذا النوع من الإنشاد، وكان من المنشدين آخرون غير هؤلاء لا يرتبطون بمجموعة ثابتة لها منشد، ولكنهم يحرصون على إقامة لقاءات فيما بينهم يتم خلالها ترديد ما يطرأ على بالهم من شعر المدائح. وكان كثير منها مما قاله الصحابي الجليل حسان بن ثابت من أشعار.

وفي الكويت – أيضا – أناس آخرون، ليس لهم اهتمام بحضور مثل هذه الجلسات، ولكنهم أحبوا شعر حسان بن ثابت بسبب حبهم لممدوحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان شعر حسان كله – عندهم – مما يرغبون في الاستماع إليه وحفظه، وذلك لما يحتوي عليه من مضامين عالية، وما فيه من تصوير جيد لزمنه.

ومما يدل على هذه الفئة التي ذكرناها أخيرا ما سبقت الإشارة إليه في كتابي: «همس الذكريات». فقد ورد هناك ما يمكن إجماله فيما يلي:

نحن الآن في زمن مضى…

وكان بيتنا القديم من البيوت التي يضمها فريج الشاوي، وهذا الفريج يشكل جزءا من منطقة تضم عدة (فرجان) وهي: الجبلة. وأصل الجيم (قاف)، وسميت بذلك لأن هذه المنطقة تقع أمام القبلة التي هي مجال الاتجاه الذي تتجه إليه في صلاتنا، وهو اتجاه يدل – في الوقت نفسه – بامتداده على موقع الكعبة المشرفة، حيث نتجه في صلاتنا إليها، كما مر بنا.

كانت في فريجنا هذا مدرسة أهلية صاحبها هو الملا عبدالعزيز العنجري، رحمه الله، وكنا نطلق عليها اسم: مدرسة العنجري اختصارا.

يتولى الملا عبدالعزيز تدريس الأولاد القرآن الكريم، على الرغم من أنه كان مكفوف البصر، ولكنه كان حاضر الذهن يحفظ ما يقرأه عليه الصغار، ويصحح لهم أخطاءهم إن صدر من أي واحد منهم أي خطأ. وكان له مساعد يتولى الإشراف على المدرسة ومساعدة الملا.

التحقت بهذه المدرسة قبل التحاقي بالمدرسة الأحمدية التي كانت ثاني مدرسة نظامية يتم إنشاؤها في الكويت، بينما كانت المدرسة الأولى – كما هو معروف – هي المدرسة المباركية.

وصفت الملا في الكتاب الذي أشرت إليه، فقلت:

«صاحب المدرسة هو الملا عبدالعزيز العنجري، وهو رجل كفيف البصر ولكنه أوتي بصيرة نافذة. وهو في الوقت نفسه إمام مسجد ابن بحر الواقع في سوق الكويت. وللملا نشاط آخر فقد كان له دكان في سوق واجف يبيع فيه الأقفال والمفاتيح، وربما قام بإصلاح ما يحتاج منها إلى إصلاح، وكان مولعاً بصيد السمك (الحداق) ينتهز الفرص لكي يشبع هوايته، وطالما شاركه خالي المرحوم داود سليمان الجراح هذه الهواية، فكانا يذهبان إلى مكان قريب من منطقة الوطية لكي يقضيا أمسيات ممتعة يصطادان فيها السمك ويتسامران إلى الصباح.

ولهذا الملا اهتمام بحفظ الشعر القديم، وروايته لمن يحب أن يسمعه منه، وفي وقت لم أكن قد ولدت فيه بعد، وبالتحديد في زمن حكم الشيخ سالم المبارك الصباح للبلاد الممتد منذ سنة 1917م حتى سنة 1921م، استمع الملا إلى أبيات قالها حسان بن ثابت رضي الله عنه، ولم يكن يذكر منها غير بيت واحد هو:

يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل

وهذا البيت له دلالة على كرم المذكورين في القصيدة. وقد أعجبت الملا عبدالعزيز جدا حتى صار يبحث عن واحد من الناس يمليها عليه حتى يحفظها. وبينما كان يسأل استطاع أن يجد من يدله على شخص يحفظ هذه القصيدة بتمامها. ولم يضيع وقتا، بل سارع فورا إلى الشخص الذي ذكر له، بعد أن علم بالمكان الذي يستطيع أن يجده فيه. ولم يكن بعيدا عن مدرسته.

وما هي إلا دقائق حتى وصل إلى مراده.

كان الرجل جالسا أمام باب سكنه. وكان يتصف ببعض الغفلة، ولكنه – ويا للعجب – كان يحفظ شعر حسان بن ثابت كله. وبعد التحية سأل الملا هذا الرجل عن مدى حفظه للقصيدة المشار إليها، فوجده يقول: نعم أحفظها كاملة.

وهنا طلب منه العنجري أن يكرر عليه أبياتا منها حتى يحفظها،

فرد عليه بالموافقة شريطة أن يعطيه أربع آنات، وكانت هذه غير متيسرة عند العنجري في ذلك الوقت، بل كانت تعتبر مبلغا كبيرا بمقاييس تلك الأيام، ولما شرح العنجري ظرفه المالي، رد ذلك الشخص بأنه مستعد لأن يحفظه تلك القصية شريطة أن يقوم باستخراج غطاء الغوري (إبريق الشاي) الذي سقط في بئر المنزل. فوافق العنجري على هذا الشرط حبا منه في القصيدة، وعلى الرغم من أنه كفيف إلا أنه لم يتردد في الإقدام على هذه المجازفة. وعندما نزل إلى البئر بواسطة حبل أمسك به ذلك الشخص بحث عن الغطاء فلم يجده، وكان إبراهيم يتردد عليه على فترات يسأله: هل وجدت الغطاء؟ فإذا قال له: لا. طلب منه الاستمرار في البحث، يقول الملا: وقد مر وقت طويل، وهو لا يوافق على إخراجي، وأسمع بأذني أناسا يمرون عليه، ويسألونه عني فيقول لهم: لم أره، وضاقت بي الدنيا مما دفعني إلى مزيد من البحث، حتى استطعت أن أعثر على تلك المغطاة (كما تلفظ في اللهجة الكويتية)، ولما جاءني ليسأل كالمعتاد: هل وجدتها؟ قلت له: نعم، فقال رنها، أي أسمعني صوت رنينها حتى أتأكد من أنك وجدتها فعلا، ولما سمع الصوت أنزل إلي الحبل وقال أرسلها إلي أولا: ثم بعد أن تسلمها أرسل إلي الحبل ثانية وأخرجني من البئر، حيث سقطت خارجه مغشيا علي.

فأعجب لرجل متخلف عقليا يحفظ ذلك القصيد، وأعجب لرجل مكفوف يدفعه حبه للشعر إلى اقتحام ذلك الخطر، ويزيد العجب عندما نتذكر الفترة البعيدة التي تمت فيها تلك الحادثة.

وكانت هذه الحادثة من حقائق ذلك الزمان، فقد استمعت إليها من الأخ المرحوم عبداللطيف عبدالرزاق الديين الذي سمعها بدوره من المرحوم عبدالعزيز العنجري مباشرة. وفي هذا الذي تقدم ذكره دلالة على الاهتمام بالشعر العربي في ذلك الوقت البعيد. وبالتأكيد فإن هذا الملا لم يكن وحيدا في عشقه للشعر، بل لا بد من وجود كثيرين غيره. ومما يدل على ذلك أنني انتقلت بعد فترة يسيرة من تلك المدرسة إلى مدرسة أهلية أخرى، فكان الملا يقرأ لنا مقطوعات شعرية من كتاب: «جواهر الأدب» لأحمد الهاشمي، وكان يطلب منا حفظها وترديدها أمامه وأمام زملائنا، ومنها قول الشاعر:

الجد في الجد والحرمان في الكسل فانصب تُصب عن قريب غاية الأمل

واصبر على كل ما يأتي الزمان به صبر الحسام بكف الدراع البطل

أما قصيدة حسان بن ثابت التي عرضناها فكان مطلعها:

أسألت رسم الدار أم لم تسأل بين الجوابي فالبضيع فحومل

ومنها قوله:

لله در عصابة نادمتهم يوما بجلّق في الزمان الأول

يمشون في الحلل المضاعف وشيها مشي الجمال إلى الجمال البُزّل

إلى أن يقول:

والخالطون فقيرهم بغنيهم والمنعمون على الضعيف المرمل

أولاد جفنة حول قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل

وبعد، فلله در حسان بن ثابت فهو شاعر زمانين كان بارزا فيهما بشعره: زمان الجاهلية وزمان الإسلام.

ختام

يُطلق لفظ المدارس الأهلية عندنا على تلك التي كانت سائدة في الكويت قبل أن ينشأ التعليم النظامي بقيام المدرسة المباركية في العام الدراسي 1911-1912م.

وفي بداية نشأة الكويت لم يكن هناك مجال للدراسة أمام الصغار من أبنائها. فكانت قراءة القرآن الكريم حافزا مهما يدفع إلى اغتنام الفرص من أجل الحصول على قسط من العلم. وكان بعض الآباء يتولون – بقدر إمكانهم – تعليم أولادهم بعض سور القرآن الكريم، وبعض ما يعينهم على الكتابة والقراءة. وعندما تم تعيين أول قاض في الكويت مع عهد الشيخ صباح الأول الذي توفي سنة 1762م وهو الشيخ محمد بن فيروز الذي استطاع أن يضيف إلى عمله تعليم الأولاد القراءة والكتابة بما في ذلك قراءة القرآن الكريم، فكانت هذه البداية مجالا أدى إلى التنبه إلى ضرورة طلب العلم فخرج عدد من أبناء البلاد إلى بعض البلدان المحيطة لأجل اكتساب ما يمكنهم اكتسابه من المعارف، وقد قام بعض هؤلاء بدور المعلمين عند عودتهم، فصار لدينا أكثر من كتّاب يقوم بنشر المعرفة بعد مرور تلك الفترة التي افتقر الناس فيها إلى المتعلمين.

من هنا بدأ إنشاء ما يطلق عليه الكتاب (بفتح الكاف) ومعناها الكاتب أو الذي يعلم الكتابة. وصار هذا اللفظ دارجا عندنا منذ ذلك الوقت حتى قيل في الأمثال الكويتية: «يوم شاب ودوه الكتاب».

أي انه لم يتعلم في مقتبل حياته. والمثل يشير إلى الشخص الذي لم يستفد من الفرص المتاحة له في صغره لكي يكتسب المعارف والتجارب، فصار يبحث عنها بعد أن طعن في السن، وأصبح غير قادر على استيعاب المعلومات بقدرة كافية.

كانت البداية الصغيرة التي أشرنا إليها دافعا إلى اهتمام واسع، فكثر عدد الكتاتيب. وصار جميع أطفال الكويت – تقريبا – يتلقون علومهم فيها، وكانت هذه العلوم لا تتعدى قراءة القرآن الكريم، وكتابة الرسائل وقليلا من الحساب.

وبعد فترة ازداد عدد الكتاتيب في البلاد، وصارت جميع الأماكن المسكونة لا تخلو منها، حتى وجدنا الكتاتيب – إضافة إلى ما هو قائم منها في العاصمة وما حولها – موجودة فيما هو بعيد عنها، فصرنا نراها في الجهراء والفحيحيل والشعيبة والفنطاس وكل القرى الممتدة على الساحل ابتداء من رأس السالمية إلى الجنوب.

وقد نوع بعض أصحاب الكتاتيب في طرق تعليمهم وظهرت – بعد قيام المدرسة المباركية – مدارس شبيهة بها، وقد كان من هذا النوع من المدارس: المدرسة العامرية ومدرسة السعادة.

هذا، ولقد كانت بداية انتشار الكتاتيب عندنا في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، وتم تكاثرها وزيادة الاهتمام بها مع نهاية هذا القرن. وقد استمر هذا النشاط حتى مطلع القرن العشرين، فقد افتتح الشيخ يوسف بن عيسى القناعي مدرسة من هذا النوع في سنة 1907م، وكانت على هيئة الكتاتيب، ولكنها تقدم دروسا مختلفة. ففيها يتلقى الطلاب علوم الفقه والتجويد والحساب والقراءة والكتابة، إضافة إلى القرآن الكريم.

ثم جاء دور التعليم النظامي عند إنشاء المدرسة المباركية، ولحقت بها مدارس أخرى، ثم نشأ مجلس المعارف سنة 1936م فسار التعليم في مساره الذي شهدناه.

Lorem Ipsum

اترك تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Tabligh - Copyright 2021. Designed by Nauthemes