الدمع السري على فقد الشيخ وليد العلي
د. إبراهيم عبداغفار الطاهري
لي ذكريات مع فضيلة الشيخ وليد العلي ما زالت تنبض بالحياة، أتذكرها بين حين وآخر، ولسان حالي يدعو له دومًا بالتوفيق والسداد، فوالله – شيخنا – إن ذكرياتك لا تُنسَى أبدًا، فهذه صور من الذكريات الجميلة، فوالله ليس الوداع وحده موجعًا، بل الذكريات أوجع.
رحلتَ عن الدنيا والدمعُ يملأُ أعيننا.. والله لم أكن أتصور أن ينطفئ هذا النور في هذه السِّنِّ المبكرة؛ لم أتصور أبدًا أن ترحل عنا وتلاميذُك ومحبُّوك لا يزالون بانتظار دروسِك.. لا نبكيك اعتراضًا على قدر الله جل جلاله، ولكن نفتقدك كثيرًا لنفعك لإخوانك في الله في شتى أمور الحياة.
خَطْبٌ أَلَمَّ وَدَمْعُ الْعَيْنِ مُنْسَكِبُ وَالْقَلْبُ مِنْ أَلَمِ الأَحْزَانِ يلْتَهِبُ وَمُهْجَتِي مَسَّهَا مِنْ بُؤْسِهَا سَقَمٌ عَلَى فِرَاقِكَ يَا مَنْ لَيْلُهُ قُرَبُ كَمْ مُؤْمِنٍ بِالدُّعَا لِلشَّيْخِ مُنْشَغِلٌ لِأَنَّهُ لِلْعُلا يَدْعُوْ وَيَحْتَسِبُ «وَليدٌ» نَعْيُهُ فِي الْقَوْمِ فَاجِعَةٌ هَزَّتْ مَشَاعِرَنَا وَالدَّمْعُ مُنْسَكِبُ لَئِنْ طَوَى الْمَوْتُ نَجْمًا فِي تَأَلُّقِهِ فَنَشْرُ آثَارِهِ لِلاقْتِدَا يَجِبُ مَحَاسِنٌ يُبْهِرُ الدُّنْيَا تَقَمُّصُهَا وَلِلْجِنَانِ بِفَضْلِ اللهِ تَنْتَسِبُ وَالْمَوْتُ يُسْرِعُ لِلأَخْيَارِ يَقْبِضُهُمْ كَمَا رَوَى أَحْمَدٌ وَالسَّادَةُ النُّجُبُ إِنْ أَطْفَأَ الْمَوْتُ مِصْبَاحًا أَضَاءَ لَنَا ثُمَّ ارْتَقَتْ رُوحُهُ وَانْزَاحَتِ الْحُجُبُ فَقَدْ بَكَتْهُ زَوَايَا الْعِلْمِ يَعْمُرُهَا وَأَرْسَلَ الدَّمْعَ مَحْزُونٌ وَمُكْتَئِبُ «وَليدٌ» كُنْتَ نِبَرَاسَ الْعُلُومِ وَهَلْ لِوَلِيدٍ مَثَلٌ تَعْلُو بِهِ الْخُطَبُ وَمَنْ كَمِثْلِكَ لِلطُّلاَّبِ يَرْفِدُهُمْ بِكُلِّ نَافِعَةٍ تَسْمُو بِهَا الرُّتَبُ تَزَوَّدُوا بِعُلُومِ الشَّرْعِ تَدْفَعُمْ إِلَيْهِ تَقْوَى وَعَزْمٌ صَارِمٌ عَجَبُ وَكَمْ وَكَمْ شَيَّدَتْ يُمْنَاكَ مِنْ عَمَلٍ بِرٍّ فَأَنْتَ لِطُلاَّبِ الْعُلُومِ أَبُ فَلاَ الْبَيَانُ وَلاَ الأَشْعَارُ قَادِرَةٌ عَلَى الْوَفَاءِ وَلَا الأَسْفَارُ وَالأَدَبُ نَمْ فِي النَّعِيمِ بِفَضْلِ اللهِ مُغْتَبِطًا يَحُفُّكَ السَّعْدُ لَا يَنْتَابُكَ الْوَصَبُ[1] |
وقد كان للشيخ وليد العلي – رحمه الله – صفات حميدة وسجايا عديدة لا يسع القلم ذكرها كاملة، فمن أهم سجاياه وصفاته الحميدة:
1- الموهبة في التدريس، والرغبة الكبيرة في أداء عمله على أكمل وجه:
لقد وهب الله – عز وجل – الشيخَ موهبةً خاصةً في التدريس، فكان يأتي مبكرًا جدًا إلى الجامعة أيام محاضراته، ولا يدخل الطلاب القاعة إلا ووجدوه حاضرًا، فقد كان درسه مشبعاً بالعلم والفوائد العظيمة، ولا يخرج الطالب من درسه إلا وقد استوعب الدرس جيدًا؛ لأنه كان يلخِّص الدرسَ أولاً، ثم بعد ذلك يقوم بالشرح بلا كللٍ ولا مللٍ، وكان ومن عادته إن وجد بعض الطلاب لم يستوعبوا الدرسَ أن يعيده لهم المرات تلو المرات إلى أن يرسخ الدرسَ في أذهانهم.
2- ترسيخ العقيدة السليمة في نفوس تلاميذه:
كان – رحمه الله – يحرص على ترسيخ عقيدة التوحيد في نفوس طلابه، وكان يقول: (لا يمكن الاجتماع إلا على عقيدة واحدة صحيحة سليمة، ولا يجمعنا إلا كلمة التوحيد: لا إله إلا الله؛ نطقًا واعتقادًا وعملًا). وكان يقول: (لا يجدي الانتساب للإسلام ويكون هناك اختلاف في العقيدة).
3- الورع:
كان الشيخ صاحب ورع عظيم؛ فقد رأيتُ له مواقفَ كثيرةً تدل على تورعه الشديد.
فمن ورعه: عدم قبول أي مقابل على مجالس سماع كتب الحديث الشريف التي كانت في المسجد الكبير، فقد كانت تعقد قبل سبع سنوات مجالس لسماع كتب الحديث الشـريف، وكانت مجالس مباركةً عظيمة النفع.
ومن ورع الشيخ: أنه كان يجلس لإقراء القرآن الكريم لطلبة العلم مجانًا؛ حُسبةً لوجه الله عز وجل، ولِمَ لا يرتحل إليه طلاب العلم لتصحيح القراءة وطلب الأسانيد، وهو خريج كلية القرآن الكريم – الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
4- جمال خُلُقه، ونفسه المطمئنة المنشرحة:
إن جوهر الإنسان يسمو بجمال الخُلق؛ فكان الشيخُ ذا خُلُقٍ عظيمٍ مع تلاميذه، وكان من دأبه أنه
إذا رأى أحدًا أن يقول له: «حفظك الله»، «بارك الله فيك»… إلى آخر هذه الجمل والكلمات الطيبة التي تدل على سمو خلقه.
وكان مطمئن النفس منشرحًا كلما رأيتُه في أروقة كلية الشريعة رأيتُه منشرحًا يقابل الجميعَ بابتسامته اللطيفة والجميلة.
5- غزارة العلم:
كان الشيخُ ذا علمٍ غزيرٍ في الفقه والحديث والقراءات والأدب، فمَنْ جلس معه رأى منه غزارة العلم في شتى العلوم، ولم يجلس معه أحدٌ إلا استفاد منه علمًا كثيرًا.
6- تحذيره من التقليد الأعمى:
كان الشيخ محباً لكتب المذاهب الأربعة، مستفيداً من كتب السادة الحنابلة، مرجحاً ومتفقًا لما عليه الكتابُ والسنةُ، ولم يكن مقلدًا لمذهبٍ معيّنٍ في المسائل، بل كان مرجحاً لما عليه الكتاب والسنة.
7- التميز في الأداء:
كان الشيخُ – رحمه الله – متميزًا جدًا في تدريسه وإلقائه للمحاضرات على طلبة العلم؛ فقد كانت له طريقة عجيبة في التدريس، وكان الشيخُ صاحب تنوّع في طريقة تدريسه وإلقائه للخطب والمحاضرات، وكان ينتقي كلماته، ويضبط ألفاظه، مستخدمًا السجع في كلامه مِن غير تكلُّف.
8- التواضع وخفض الجناح:
كان الشيخُ متواضعًا جدًا مع شيوخه وتلاميذه.
فقد رأيته أكثر من مرة يدفع عربة المشايخ من كبار السن، مثل الشيخَ عبد الوكيل الهاشمي، والشيخ ثناء الله المدني، والشيخ محمد إسرائيل الندوي؛ لأخذهم لأداء صلاتي المغرب والعشاء إبان دورات سماع كتب الحديث الشريف في المسجد الكبير.
ومن تواضعه: أنه عندما كان يراني في أروقة وممرات كلية الشريعة كان يناديني: «يا دكتور»، وكنتُ -وقتها- طالبًا في أول مراحل كلية الدراسات العليا.
ومن تواضعه: أنني دعوتُه لحضور مناقشة رسالتي الدكتوراة في كلية الشـريعة فلبّى الدعوةَ وقابلني بابتسامته المعهودة، وقال: «أبشر»، ولما رأيتُه يوم المناقشة وقد كان من أوائل الحاضرين وجلس إلى نهاية المناقشة؛ ففرحتُ بوجوده معنا أشد الفرح.
وكان خافضَ الجناح: رأيتُه أكثر من مرة يسلم على ابني (خالد) في أثناء حضور دورات السند في كتب الحديث في المسجد الكبير، والابن (خالد) كان صغيرًا، وأصر الشيخُ على وضع اسمه مع مَن أُجيز في الدورات بالأسانيد؛ لأنه حضر الدورات كاملةً.
وفي إحدى السنوات، أعلن عن مشروع (صحيح الإمام مسلم)، ولم يصلني الإعلانُ إلا متأخرًا، ولما رأيتُه كان موعد للتسجيل قد انتهى، وذهبتُ للمسجد الكبير للتسجيل، وكان الأخ القائم على التسجيل قد اعتذر مني للتأخر، فخرجتُ من قسم التسجيل، فرآني الشيخُ في الخارج فسلمتُ عليه قال: (هل سجلتَ معنا؟)، قلت له: (يا شيخنا، الوقت قد فاتني، والإخوة اعتذروا)، قال لي: (كيف اعتذروا؟ تعال معي)، فذهبتُ معه، وأمر الأخَ بتسجيل اسمي، ووضعه مع الأسماء في مقدمة الحضور، وكلُّ ذلك بأدب جمٍّ وأخلاق رفيعة.
9- الحلم والصبر:
كان الشيخُ ذا حلم كبير؛ ففي إحدى دورات الأسانيد أرسل أحد الإخوة ورقةً إلى الشيخ بيد الابن (خالد) لكي يوجه النصيحة للأخ الذي كان يقوم بالتصوير، وتسجيل الدورات بالفيديو؛ لأنه كان حليق اللحية، فلما وصلته الورقةُ رأيتُه غاضبًا قليلاً، ثم ما إن انتهى المجلس الأول حتى سألني: (من هذا الرجل الذي يريد أن ينصحَ هكذا نصيحة لشخصٍ أمام الملأ؟!)، فقلت: (يا شيخ، انْسَ الموضوع، وكأنه لم يحدث شيءٌ)، فكان أن سكت بحلم ووقار.
وقد رأيتُ من صبره في دورات المجالس الشيءَ الكثيرَ؛ فكان يجلس الساعات الطوال على كرسيه ولا يغيّر جلسته وهو جالسٌ مقابل جموع طلبة العلم، وكان جالسًا ولا تحس منه التعب؛ لصبره وتجشّمه وتحمّله أعباء التعليم والتدريس.
10- غض البصر عن المحرمات:
رأيتُ الشيخَ كثيرًا جدًا في ممرات وأروقة كلية الشريعة إذا مرت أمامه طالبة أو طالبات يخفض رأسه ويغض بصره.
11- التمتع بصحة جيدة والاهتمام بمظهره الخارجي:
كان الشيخُ – رحمه الله – يتمتع بصحة جيدة، وكان ذا نشاط وحيوية في مشيته وكلامه وحلِّه وترحاله.
وكان يهتم بمظهره الخارجي كثيرًا، فكان يحب لبسَ البشت في دورات السماع، وكان يختار ملابسه وغترته بعناية مِن غير سرف أو تبذير في تجمله.
12- قوة شخصيته وأسلوبه المقنع:
كان الشيخ قويَّ الشخصية؛ فما رآه أحدٌ إلا هابه، وجعل الله في وجهه نورًا، وفيه سمت وصفات العلماء الكبار، وكلامه إن وجَّهَه لأي أحد أقنعه بأسلوبه الحواري الرائع والمقنع.
وفي النهاية: أعزي أسرته الكريمة: والده وإخوته وأخواته، وطلابه ومحبيه في كل مكان، وأقول لهم: (سُئل الإمام أحمد بن حنبل: (من مات على الإسلام والسنة مات على الخير؟)، فقال: (اسكت، بل مات على الخير كله).
اللهم ربنا، إن الشيخ وليد العلي قد أمسى في ذمتك وجوارك، فَقِهِ فتنة القبر، وثبته عند سؤال الملكين، فأنتُ أهل الحق، فاغفر له وارحمه وتجاوز عنه، واجعل مقامه مقام الشهداء عندك، واجعله بجوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسنُ أولئك رفيقًا.
وكتبه بمنطقة فهد الأحمد من مدن دولة الكويت
يوم الثلاثاء 23 ذو العقدة 1438هـ
الموافق: 15 غشت 2017م
راجي رحمة ربه الودود:
الدكتور إبراهيم عبد الغفار عبد الحنان الطاهري الأفغاني
– عفا الله عنه –
[1] بتصرف من قصيدة ألقاها الدكتور عبد الرحمن الأهدل في رثاء الشيخ صالح بن محمد المقوشي، ورأيتُ أنها تصلح بمعانيها السامية على شيخنا الدكتور وليد العلي – رحمه الله -.
Lorem Ipsum