عبراتُ المعاني في رِثاءِ الشيخِ عبداللهِ الشيباني
قال تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
الشيخ عبدالله أحمد علي الشيباني من المشايخ الذين شرفت بهم دولة الكويت عمومًا، ومنطقة مبارك الكبير خصوصًا.
عَرَفَتْهُ قاعات الدرس في المساجد والمنابر والقاعات المعدَّة للمحاضرات والندوات، كان رحمه الله مشاركًا في أكثر من باب من أبواب العمل الإسلامي، انتفع به كثيرٌ من الناس صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساءً، لقد فقدنا واحدًا من مشايخ هذا الوطن الذي كانت له مواقف مشرِّفة في كل الجوانب، كان رحمه الله كريمًا؛ فقد كان بيته مفتوحًا للجميع، وخاصة لطلبة العلم.
يصدق فيه رحمه الله قول الشاعر: حبيب بن أوس بن الحارث، المعروف بأبي تمام في قصيدته المشهورة التي ذكرها في مدح المعتصم، وهي بعنوان:
(أَجَلْ أيُّها الرَّبْعُ الذي خَفَّ آهِلُهْ)[1]
هُوَ اليَمُّ مِنْ أَي النَّواحي أتيتَهُ فلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُهْ تعوَّدَ بَسْطَ الكفِّ حتى لَوَ أنَّه ثناها لقبضٍ لمْ تُجبهُ أنامِلُهْ ولو لم يكنْ في كفِّهِ غيرُ رُوحِهِ لجادَ بها فليتَّقِ اللهَ سائلُهْ |
إنه لمن الصعوبة الإحاطةُ بصفات النُّبْل والأخلاق الكريمة التي كان يتمتَّع بها الشيخ عبدالله الشيباني، وجعلت منه محبوبًا عند الناس، فقد عُرِف في حياته العامة بالتواضُع والبشاشة ولين الجانب، والخلق والسماحة، ومشاركة الناس أفراحهم وأتراحهم، ومناسباتهم، وإجابة دعواتهم.
• كما عرف عنه رحمه الله العبادة، والزهد، وملازمة المساجد.
• كان الفقيد رحمه الله من المشايخ المتقنين للمواد الدراسية التي تُدرَّس في مدارس الكويت، وجامعة الكويت، فقد كان لا يألو جهدًا في تدريس مَنْ يحتاج لفهم تلك المواد الدراسية، فكان يُذلِّل الصعاب للطلاب بتدريسها لهم بطريقة سهلة ومتقنة.
• كانت له خبرة طويلة في إلقاء الخطب والمواعظ، فكان يُدعى لبعض الدواوين لإلقاء الخطب والمواعظ، وكان يخطب في مسجده فترة عمله إمامًا متطوِّعًا، فانتفع الناس من علمه.
• من أجل رحلاته الدعوية للمملكة العربية السعودية وغيرها من دول العالم كثُرَ معارفُه ومحبُّوه في كثير من دول العالم، فقد كان على تواصُلٍ دائمٍ مع معارفه ومُحبِّيه، وكذلك هم كانوا يتواصلون معه للاستفادة من خبرته الكبيرة في شتى مجالات الحياة.
• كان ليِّن الجانب، باسم الوجه، يعامل الجميع باللين وطيب الأخلاق، فكسب وُدَّ الناس، واجتنب عداءهم، فقد كان له تلاميذ كُثُر، فقد درس مجموعة من طلبة العلم في مسجد الجويزي في منطقة خيطان خلال الأعوام 1983، 1984، 1985، فقد كان يُدرِّس دليل الطالب، وشرحه منار السبيل لابن ضويان، ودرس القواعد الفقهية، وعلم الرجال، وكانت له دروس مُتفرِّقة في مساجد ودواوين مناطق بيان ومشرف وسلوى والرميثية في فترة الثمانينيات، وفي الفترة الأخيرة كانت دروسه في بيته في منطقة مبارك الكبير.
• باحث قدير متمرِّس في العلوم الشرعية، كانت له عناية خاصة بالفقه وعلم الرجال، وخيرُ دليلٍ على ذلك اهتمامه بشراء كتب الفقه وعلم الرجال، ومكتبته العامرة في بيته التي تحتوي على أنفس المطبوعات والمخطوطات في شتى فنون الشريعة واللغة والأدب والشعر العربي لخيرُ دليلٍ على تضلُّعه من علوم الشريعة واللغة، وكانت له دِقَّة متناهية في شراء الطبعات المتقنة والمحقَّقة تحقيقًا علميًّا رصينًا.
• كان بسيطًا جدًّا في مأكله ومشربه وملبسه، زُرْتُه كثيرًا في بيته في منطقة مبارك الكبير، وكنت أجلس معه الساعات الطوال بعد صلاة العشاء، نُفتِّش في الكتب، ونتناقش في المسائل العلمية، وكثيرًا ما كان يكرمني بهداياه القيَّمة من الكتب ذات الطبعات النفيسة.
كان رحمه الله يدعوني دومًا لزيارته، ويرسل لي رسالته المعهودة (السلام عليكم، حياك عندنا الليلة في البيت).
• صفته المميزة هي التي أوجدت تجانُسًا بيني وبينه وهي محبَّة الكتب، وزيارة المكتبات، فقد تعرَّفت على شخصه المبارك في أروقة المكتبات التجارية، وزيارة معارض الكتب، فقد كان يحبُّني في الله، وكنت أبادله نفس الشعور، مع فارق كبير بيني وبينه في السن.
• كانت تُعجبني فيه عفويته وعدم تصنُّعه، فقد كان لا يتسخَّط، ولا يتضجَّر من شيء أبدًا، فقد كان قديرًا على إدارة أمور الحياة وكسبِ وُدِّ الناس، وتحقيق مطالبهم ومآربهم التي كان كثير منها يُستعصى ويُستصعب تحقيقها إلا عن طريقه.
• كان بارعًا في علم المعقول، مع عنايته بعلم المنقول، فقد كان له اهتمام خاصٌّ وكبيرٌ بكتب الفقه الحنفي، وكان يُردِّد ويقول: (الأدلة العقلية تفتقُ الذِّهْن).
التقيته مرة في معرض الكتاب الإسلامي، وسألني عن كتب الفقه الحنفي وجديد طبعاتها، فقلت له يا شيخ عبدالله، دار النوادر عندها طبعات محقَّقة وأخرى مصورة عن طبعات قديمة لكتب الفقه الحنفي، وعندهم تخفيضات على الكتب، فاذهب إليهم؛ لأنها فرصة أن تجد ما تريد وبسعر مُخفَّض.
فشكرني وتوجَّه لتلك الدار، وأثناء بحثي في المعرض وتفتيشي في الكتب وتقليب النظر في المطبوعات رأيته في دار النوادر، وقد اشترى عددًا كبيرًا من كتب الفقه الحنفي.
• ذكر لي رحمه الله أنه كان من أوائل الملتحقين بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، ومن أوائل خريجيها كذلك، وكان مجتهدًا إبَّان دراسته فيها، وحصل في الامتحان النهائي على شهادة التخرُّج بعلامات ودرجات ممتازة.
وذكر لي أنه أيام طلبه للعلم في الجامعة الإسلامية كان طالبًا معروفًا بالجدِّ والمثابرة في التحصيل، وكان يُساعد زملاءه في المذاكرة، وإلى جانب اجتهاده الدراسي، اجتهد في التعليق على بعض الكتب، فقد أراني تعليقاته على بعض الكتب أثناء زيارتي له في بيته، أثناء جلوسي معه في مكتبته العامرة المليئة بنفائس الكتب.
• زرتُه في شهر أغسطس/ 2018، في منزله فرأيته يتَّخذ الوقاية الشديدة، ويقول إنه متعب ومريض، ولا يخرج كثيرًا لظروفه الصحيَّة.
• كان مُتأنِّيًا، لا يجانب العجلة، وكان في كل أموره هيِّنًا ليِّنًا، لا يُطلِق لسانه إلا عند الحاجة، وإذا تكلَّم لا يتكلم إلا بخير، حديثه عذب حلو، يستأنس به جليسُه وسامِعُه.
وكان يكتفي لمن ينتقده في مجلسه بابتسامته المعهودة، لا يُفارقه الحِلْمُ والأناةُ حتى في أصعب المواقف.
• ذكر لي رحمه الله أنه دَرَسَ على العلامة محمد المختار الشنقيطي في المدينة المنورة، في فترة الثمانينيات، خلال دراسته في الجامعة الإسلامية، وذكر لي أنه استفاد منه كثيرًا.
• لم يتح له رحمه الله تعالى أن يتفرَّغ للكتابة والتأليف؛ لأنه ركَّز عنايته القصوى على التدريس والوعظ والإرشاد، فقد كان الوعظ على لسانه، يَعِظُ في كل مكان حَلَّ فيه.
• كان محاميًا، عمل في سلك المحاماة، وكان له حب شديد في قضايا: (إصلاح ذات البَيْن) بين الأزواج، وذكر لي أنه يحاول أن يُصلِحَ بين الأزواج بشتى الطرق قبل أن يُقرِّر أحدُ الطرفين الانفصالَ أو رفعَ القضايا على الطرف الآخر.
• يصدق فيه قول مُتمِّم بن نويرة يرثي أخاه مالكًا بن نويرة:
لَقدْ لامَنِي عند القُبُورِ على البُكا رَفِيقي لِتَذْرافِ الدُّمُوعِ السَّوافِكِ فقالَ أَتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتهُ لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى والدَّكادِكِ فقلْتُ له إنَّ الأَسَى يَبْعَثُ الأَسَى ذَرُونِي، فهذا كُلُّهُ قَبْرُ مالِكِ[2] ألَم تَرَه فينا يُقَسِّمُ مالَهُ وتأوي إليه مُرْملاتُ الضَّرائكِ[3]. |
وتذكرت شعرًا للفارعة بنت طريف قالته بعد وفاة أخيها الوليد بن طريف [4]:
فقدناك فقدان الربيع وليتنا فديناك من ساداتنا بألوف حليف الندى إن عاش يرضى به الندى وإن مات لا يرضى الندى بحليف فيا شجر الخابور مالك مورقًا كأنك لم تجزع على ابن طريف |
ويقول ابن دريد في مقصورته المشهورة [5]:
وَالنَّاسُ أَلْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدٍ وَوَاحِدٌ كَالْأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَنَى وَلِلْفَتَى مِنْ مَالِهِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ لا مَا اقْتَنَى وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيثٌ بَعْدَهُ فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى |
لقد كان الشيخ عبدالله الشيباني بحقٍّ حديثًا لمن وعى.
فقد تُوفِّي يوم السبت 15/ 9/ 2018م عن عمر يناهز (58) عامًا رحمه الله رحمةً واسعةً، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
أسأل الله عز وجل أن يتقبل منه صالح أعماله، وأن يجعل ما قام به وقدَّمه في ميزان حسناته يوم العرض عليه.
[1] ينظر: ديوان أبي تمام1 /15.
[2] الأبيات الثلاثة الأولى وردت في حماسة أبي تمام1 /334.
[3] الأبيات الأربعة وردت في الأمالي؛ لأبي علي القالي2/1.
[4] ينظر الأبيات في: شرح أبيات مغني اللبيب، ج1؛ للبغدادي/277، والوحشيات؛ لأبي تمام، ص150، والأغاني؛ لأبي الفرج الأصفهاني12 /58.
[5] ينظر: شرح مقصورة ابن دريد؛ لعيد وصيف محمد، ص139.
Lorem Ipsum