ديوان الخطب المنبرية للشيخ عبدالرحمن الكمالي
(عرض وتحليل)
ديوان الخطب المنبرية للشيخ عبدالرحمن الكمالي
(عرض وتحليل)
بقلم: مرشد الحيالي
هذا الديوان للخطب المنبرية المسمى “بغية الخطباء والواعظين، ومنار الهُدى للمتعظين”[1] يدخل ضمن الخطب المنبرية التي تعتمد تسلسل الموضوعات، وتقديم ما هو أهم من التركيز على معاني العقيدة وأصول الإيمان، وربطها بحياة الناس، وهو أسلوب درج عليه عامة علماء الأمة في دعوتهم ووعظهم، وهو أسلوب نافع للخطيب من جهات عدة:
أولاً: يجعل الخطيب يخصِّص خُطبًا ومواعظ في التوحيد والتحذير من وسائل الشرك وأبوابه، محاولاً استغلال الحدث المعاصر والنوازل العارضة وربطها بمعاني التوحيد، فتعطي الخطبة أو الموعظة ثمارها اليانعة.
ثانيًا: يجعل الخطيب مُتَّزنًا ينظر إلى الأحداث والوقائع بمنظار الإيمان الثابت، ويعلمه التدرج في علاج المشاكل الاجتماعية وإصلاح الأمور، بدلاً من تفريغ طاقات الأمة فيما لا فائدة من ورائه ولا طائل منه.
توطئة: لقد بوَّب أصحاب الدواوين خطبهم على مناهج مختلفة، فالبعض منهم اتَّبع أسلوب التسلسل للأشهر الهجرية بدأ بشهر محرَّم الحرام، وجعل له أربع خُطب تتعلَّق به، ثمَّ شهر صفَر وربيع الأوَّل وربيع الثَّاني وهكذا، وتناول في كلِّ شهر ما يتعلَّق به من مناسبات، والاعتِماد على هذا النَّوع والأسلوب قليل الفائدة والثمرة إذا التزم به الخطيب ولم يخرج عن مِنواله لسبب أنه يجعل الواعظ مقيَّدًا في وعظه لا يمكنه معالجة معظم القضايا التي تهم العصر، وبذا يفقد الخطيب مركزَه في التوجيه والتأثير، ويصبح مقيدًا بما رسمه وخطَّه لنفسه من قوانين، ولو أن الخطيب تحرر من التقييد وتفرس في وجوه الحاضرين، وأي مرض يغلب عليهم وعلة تسيطر فيهم، لنفع نفسه والحضور، وقبل الدخول في الموضوع والشروع في المقصود، نذكر نبذة عن ترجمة المؤلف – رحمه الله – ودوره في مجال الخطابة والوعظ والتوعية والإرشاد.
ترجمة صاحب الكتاب[2]:
نَسبه: هو عبدالرحمن بن أحمد بن محمد بن عبدالرحمن بن يحيى بن محمد بن كمال بن أحمد بن شمس الدين بن نور الدين بن سعيد بن عبدالرحمن الحجازي.
نشأته: ولد الشيخ عبدالرحمن في عام (1935م) ونشأ في ولاية خصب في محافظة “مسندم” في عمان، حيث عاش في بيت شرف وعلم وأدب ومجد وفضل، فلقد كان والده شيخًا وإمامًا لمسجد (الشيخ راشد) في شرقي خصب، فتعلم على يده مبادئ وعلوم الشريعة والفقه واللغة، توفي والده وهو صغير، فتولت أمُّه تربيته، أكمل دراسته في الدين والعلوم العربية والفقه بين ظهراني قومه، فدرس على يد قاضي خصب (الشيخ أحمد بن إبراهيم بن يحيى الكمالي)، ثم انتقل للتعلم في المدرسة الكمالية[3] في فلج القبائل في ساحل الباطنة، فدرس على يد العالم الجليل الشيخ عبدالرحمن بن أحمد بن يحيى الكمالي، ثم انتقل إلى الإحساء طلبًا للعلم، فدرس على يد الشيخ محمد أبي بكر، ثم انتقل إلى مكة المكرمة فدرس على يد الشيح محمد نور بن سيف بن هلال المهيري، بعدها ذهب للعمل في الكويت سنة 1952م فعمل إمامًا وخطيبًا وواعظًا ومأذونًا شرعيًّا في محافظة الجهراء.
صفاته وأخلاقه: كان الشيخ مثالاً للخُلق الحسن والأدب الرَّفيع، فقد كان عفَّ اللسان، طلق المحيا، دَمثًا متواضعًا محبوبًا محمودًا كريمًا، وكان يحرص في خطبه على التأنق في اختيار ألفاظها، وتنميق عباراتها، وتسجيع فقراتها، وكذلك كان حاله عند مخاطبة الناس وغشيان مجالسهم، إذ كان ملتزمًا أصولَ اللياقة في الخطاب والمحادثة، ولم يكن يخلو من رُوح مرحة ودُعابة لطيفة، أما وجهه الباسم المتهلل، فقد كان عنوانًا لا تخطئه عين الناظر إليه، يعبِّر بصدق عن طيب شمائله وأخلاقه التي تبرز مفهوم التدين السليم في التعامل مع الناس.
أخلاقُه تَسَعُ الجميعَ سماحةً كنَسِيم بحرٍ إذ يَهبُّ عليلاَ وله التَّواضُع والدَّماثَة آية كانت إلى رقِّ القُلوب سَبيلاَ |
كان للشيخ مواهب عدة، فإلى جانب قدرته الخطابية والوعظية، كان يُعرف بجمال خطه وزخارفه الإسلامية الجميلة.
مؤلفاته:
للشيخ العديد من المؤلفات في الخطب والوعظ، وهي: “ديوان الخطب العصرية المنبرية”، وكتاب “المواعظ السنية لأيام شهر رمضان البهية”[4]، وديوان “الجواهر المرصعة في الخطب المنوعة”[5]، وكتاب “بغية الخطباء والواعظين”[6]، وكتاب “بغية الواعظين إلى سبيل الدعوة إلى الدين”.
ومما قاله في حثِّه للعلماء على القيام بواجب الدعوة إلى الله والدفاع عن العقيدة الصحيحة:
ألاَ يا مَعشرَ العُلماءِ أَنْتمْ رِجالُ الدِّين في كلِّ البلادِ ولَولاكُم عبادُ اللهِ بارتْ وبَاءتْ بالمصائبِ والفَسادِ فقُوموا باركَ المنَّانُ فيكُم لِقمْعِ المُعتدينَ ذَوي العِنادِ |
أولادُه: أما أنجال الشيخ، فهُم سبعة: أحمد ومحمد[7] وعبدالقادر وعبدالمنعم وعبدالله ومحمود ويوسف، وكلهم قد سار على درب والده في الصلاح وطلب العلم والتُّقى والورع.
وفاته: توفي – رحمه الله – في الكويت بعد رحلة مع المرض لازمته أربع سنين، وتوفي في فجر الجُمعة غرة ذي الحجة 1424 هـ الموافق 23/ 1/ 2004.
كان الشيخ من أوائل الأئمة الذين عملوا في الأوقاف منذ العام 1952م، ومنذ أكثر من نصف قرن وهو يؤم ويخطب ويعظ بلا كلل ولا ملل، وعَرفه أهل الجهراء منذ ذلك الحين، كيف لا ومسجده كان أول مسجد فيها[8]؟
تصنيف الكتاب: ذكرنا في بداية البحث أن الديوان يعتمد تسلسل الموضوعات وتقديم ما هو أهم، يقول المؤلف في بداية كتابه: وهو يشتمل على مائة خطبة منبرية في مختلف المواضيع الدينية والاجتماعية ذات الأغراض التوجيهية والأفكار الإصلاحية الهادفة، أقدمه لكل مسلم سليم العقيدة، حي الضمير، بأساليب مُشرقة يُحتذى بها لتكون نِبراسًا يُستضاء بإشعاعها، تُمهِّد للخطيب وعظَه، وتُقوِّم لسانه ولفظَه، وتسلك في النصح والإرشاد، تناولتُ فيه الموضوعات الحساسة التي تماشي العصر، وتواكب المجتمع وتناسب تطور الحياة بطرق سهلة قويمة، وأساليب مترابطة مستقيمة، تعالج الأمراض الاجتماعية، والعلل الخُلقية، وتحث على الآداب الإسلامية، وقد جاء كما أراد له مؤلفه بعيدًا عن التعقيد والإيهام، يناسب مستوى الأفهام.
سبب تأليف الديوان: بيَّن – رحمه الله – أنه ألقى خُطبًا في بعض مساجد الدولة عن طريق الإذاعة، وقد طلب منه الكثير من أصدقاء ومحبين جمع تلك الخُطب وطبعها في ديوان مستقلٍّ؛ لينتفع منها العامة والخاصة، فجاء كما قال مؤلفه: “كاملاً نافعًا في ذاته، بليغًا في عظاته، يتَّعظ منه أولو الأذهان الواعية بمجرد التنبيه، محققًا لأمال الخطباء والمرشدين والوعَّاظ، كفيلاً لمن تصدَّر للخِطابة بالكفاية لتضمنه نماذج من الخطب المنبرية العصرية، واشتماله على قواعد الدروس الوعظية”.
منهجه في الكتاب: بيَّن – رحمه الله – في المقدمة مَنهجه الذي اتَّبعه في تأليف الخطب المنبرية، حيث زيَّن الخطب بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وطرَّزها بالجُمل البيانية، والألفاظ الجَزلة، والمعاني السامية، بلا اختصار مخلٍّ، ولا تطويل مملٍّ، ولم يكن القصد هو التقيد به، بل لينسج على منواله، فله – أي الخطيب – أن يختار ما يناسب حاله، ويقرِّب فَهم المقال، ويغني عن السؤال، وله إذا أراد أن يحقق مراده بحذف أو زيادة، فالمقصود النُّصح للعباد، بالوعظ والإرشاد، والتوضيح والبيان، بفصاحة اللسان، بما يناسب الزمان والمكان، وسنبين ذلك بشيء من التفصيل[9].
المطلوب من الخطيب: أن يكون مُلتزمًا أصول اللياقة في الخطاب والمحادثة وإتقان ألفاظه في الوعظ، وخاصة تلاوة الآيات القُرآنية وضبط الأحاديث النبوية، يقول المؤلف – رحمه الله -: “أن يكون – الخطيبُ – حكيمًا؛ ليؤدي اللفظ صحيحًا قويمًا؛ لأن الخطأ اللفظي، يضر بالأسلوب الوعظي، ويفقده مكانته، إذا أساء عبارته، وعليه أن يهتم بتصحيح الآيات، وإتقان لفظ الكلمات، وضبط الحديث المروي، من القول النبوي، فإن لم يهتم بذلك تعرض للأخطاء، وتكاثر عليه النقاد، ونفرت منه نفوسهم، واشتد عليه عبوسهم[10].
زيِّنْ ثِيابَك ما استطعتَ فإنها زَينُ الرِّجال بها تعزُّ وتكرمُ |
المنتفع من هذا الديوان المنبري:
ذَكر في المقدمة[11] أصنافًا من الأمة لا ينتفعون من الخطب المنبرية إذا تمادوا في غيهم، وهم على أنواع:
• صِنف أخذت الدنيا سمعَه وعقله وقلبه، وأنسته دينَه، فهو يعيش على هامش الحياة، لا يعبر إلا عن هواه ودنياه، وحضوره مثل غيابه.
• صنفٌ مُعجب برأيه وعقله، غير مستعد لأن يصغي إلى الخطيب مهما كان فصيحًا مؤثرًا، ومن يسمع الخطيب من يظن بنفسه النقص، ويحب الزيادة من الخير.
• صنف يدخل المسجد بحُكم العادة، شبحه في المسجد، وقلبه في أودية محبوباته.
• صنف لا ينتفع من الخطيب؛ لأنه لا يدخل المسجد أصلاً، إما بسبب الغفلة التي استحكمت عليه، أو من يسمي نفسه من المتنورين الذين يرون أن الخطيب والمساجد من الخرافات.
• صنف هم أمل الخطيب ومحل رجائه ومكان غرسه، الذي لا يلبث أن ينمو ويؤتي ثماره.
فائدة هذا التصنيف:
وهذا التصنيف نافع للخطيب ليعرف الوسائل المفيدة لدعوتهم، وخصائص كل واحد منهم، والحقيقة أن من يحضر المسجد ويستمع للخطيب أصنافٌ من المدعوِّين، بعضهم مِن رُوَّاد المسجد وممن تربطهم علاقةٌ طيبةٌ بإمام المسجد، وهم أصناف، فمِنهم المُثقَّف ومَن لديه معلومات عن أمور الدين والإسلام، والبعض الآخر من الأعراب ممن لا يفقه عن الإسلام إلا بعض أحكامه، والبعض الآخر من الحاضرين هم من العُصاة ممن هداه الله إلى الإسلام، وشرح قلبه للإيمان.
والخطيب عليه واجب ومسؤولية تُجاه مَن يخاطبهم، وينبغي أن يتميز خطابه بما يلي:
• بالشفقة واللِّين، وأن يَمُدَّ لهم يدَ العون والمساعدة ليحررهم من ظلمات الجهل والمعصية إلى نور العلم والإيمان، فلا ينبغي أن يحقر أيًّا من المدعوِّين مهما كان شأنه؛ لأن الله يقبل التوبة عن عباده؛ ولذا فعليه أن يكون طبيبًا حاذقًا، يعرف كيف يصف الدواء الناجع للمريض دون أن يشعر به.
• أن يوَطِّد علاقته مع الجميع دون استثناء، من خلال السؤال عنهم، وربما زيارتهم وتفقد أحوالهم، وكشف ما التبس عليهم من شبهات واردة أو شكوك في الدين والعقيدة، بأسلوب واضح لا لَبس فيه ولا تعقيد.
منهج المؤلف في تأليف الخطب:
اعتمد المؤلف في إعداد الخطب المنبرية على نقاط عدة، نبينها بشكل عام:
أولاً: وحدة الموضوع وربطه بواقع مَن يتحدث إليهم ويخاطبهم، وبشكل واضح اختيار الآيات الواضحة، والأحاديث الصريحة الصحيحة، التي تلائم مقصد وحال المستمعين، وأن يكون الكلام مرتبطًا بعضه ببعضه؛ لأن المقصود أن يفهم السامع ويعي الحاضر فيسارع إلى العمل والتطبيق، وهو ما تميز به ديوان الخطب المنبرية للشيخ – رحمه الله.
ثانيًا: براعة الاستهلال لما حوته من ألفاظ ومعانٍ مُحكمة المبنى والمعنى، قوية التأثير، متينة الأسلوب – حسن الابتداء وقوة الافتتاح – مناسبة لمضمون الخطبة تُشير إلى موضوعها، ومن فوائد ذلك للخَطيب أنها تعينه على الاسترسال في طرح الموضوع بكل ثقة وثبات، وتذكِّره بمفرداتها، وفيه فائدة للمستمع حيث يكون الموضوع لديه واضح المعالم، يدفعه إلى الإنصات والاستماع والاستفادة من الخطبة.
وهذا نموذج لمقدمة خُطبة بمناسبة دوام الاستقامة بعد رمضان، يقول الشيخ: “الحمد لله الباقي فلا يزول ولا يتغير، الحكيم الذي جعل في انقضاء الشهور وتقلب الليل والنهار عبرة لمن تفكَّر، لا إله إلا هو جعل الفلاح لمن عمِل بأحكام الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فتح أبواب رحمته، لمن داوم على طاعته، وحجب أنوار هدايته، عمن انقاد لشهواته وانغمس في حمأة رذيلته”[12].
ثالثًا: التنويع: مما تميزت به الخطب المنبرية كونها مُنوعة ما بين تفسير آية، أو شرح حديث، أو حكمة بالغة، أو قصة مؤثِّرة، أو مَثَل من الأمثال، أو بيت من الشِّعر جزل المبنى ملزم المعنى، ثم يربط ذلك بمعاني القرآن والسُّنة، وهذا من شأنه أن يؤثر في السامعين، فيجلب انتباههم، ويُنبه غافلهم، ويوقِظ نائمهم، خاصة إن كان الخطيب ماهرًا مُتمرِّسًا يستحضر المعاني بقوالب من الألفاظ بأيسر أسلوب، إضافة إلى ذلك فإن من يحضرون الخطب المنبرية ألوان وأصناف من الناس؛ ما بين مثقف وأديب، أو عالم ومتعلم، ومن شأن هذا الأسلوب أن يرفع المَلَل والسآمة، ويمنح الخطب جمالاً ورونقًا، وتجعل الخطيب يملك زمام الأمر وناصية الموقف.
رابعًا: الاقتصار في ديوانه على ما ثبت من الأحاديث الصحيحة في دواوين السنة؛ كالبخاري ومسلم وغيرهما، ونبذ الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة التي تعج بها دواوين الخطب المنبرية، والتي يستدل بها الوعاظ والخطباء على منابرهم؛ لما لها من الأثر السيئ على الفرد والأمة، وقد كان الشيخ مثالاً يُحتذى به في نبذ البدع والتمسك بالسنة والعض عليها بالنواجذ، وكان ذلك واضحًا حتى في لباسه وسمته وهديه، حيث كان يُوصي بوصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحذر من الإسبال؛ لأنه من المخيلة، ولكن هذا الاتباع والتمسك بالهدي النبوي كان يرافقه طيب الشمائل والخُلق، ودرر من الأدب في الدعوة وحسن التعامل مع الخَلق.
خاتمة: وقد ختم المؤلِّف مقدمتَه الرَّائعة ببيان بعض ما اختص الله به يوم الجمعة من مزايا وفضائل؛ ليكون الخطيب على بيِّنة منها، وهي عبارة عن فضائل وآداب يوم الجمعة وبعض المسائل الفقهية المتعلقة بها، مثل قول الخطيب: “أما بعد” ومشروعية ذلك من السُّنة، وماذا على المرء إذا تكلَّم والخطيب يخطب، وجلوس السامع أثناء الخطبة ودور الخطب في ذلك، وما ينبغي للخطيب أن يقرأه في صلاة الجمعة، ونحوها من المسائل النافعة المفيدة.
نموذج من خطبة:
بعد المقدمة: أما بعد، فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله تعالى وطاعته؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 9 – 11].
أيها الإخوة المؤمنون:
إن مما شرعه الإسلام أداء الصلوات الخمس جماعة في المساجد؛ لمنافع كثيرة، ومزايا جمَّة، وفوائد عظيمة، وحكم وأسرار عالية؛ ذلك أن القيام بها يؤلِّف بين المسلمين، ويجمع قلوبهم في أكبر عبادة مطهرة للقلوب ومهذبة للنفوس، ومرقِّية للشعور، ومنمِّية للمحبة بين المصلين، وموصلة إلى رجاء الثواب، وتعلق الآمال بالله الكبير المتعال.
وفيها يتعلمون من الإمام الدين الخالص بطريق علمي أو نظري؛ بما يتحفهم به من النصائح والمواعظ، والدروس الدينية عقب الصلوات؛ فتعلو مداركهم، وتتوسَّع معارفهم، وتزداد ثقافاتهم بتعاليم دينهم.
وفي صلاة الجماعة أيضًا حركة السَّعي إلى المساجد، فيزول الكسل، ويحلو العمل، وفيها سهولة إعلام الناس بالأمور العامة، والحوادث المهمة، إلى غير ذلك من المزايا.
وفي الجملة فهي مؤتمر من مؤتمرات المسلمين النافعة المتكررة خمس مرات في اليوم والليلة؛ ليتداول المسلمون فيها أمورهم، وما يعود عليهم بالنفع العميم، والخير الجسيم.
وفيها يقف المسلمون بين يدي الله رب العالمين، في خشوع العابدين، وفي سمت الصالحين، خلف إمامهم كالبنيان المرصوص، حقًّا إنه موقف يُحيي السرائر، ويُوقظ المشاعرَ، ويبعث الإيمان في الضمائر.
فما أعظم هذا الاجتماع إذا سُوِّيت الصفوف، ولانت الأيدي، وتحاذت الأقدامُ، وتلاصقت الأكتاف، ووقف الضعيف بجانب القوي، والفقيرُ بجانب الغني، والصغير بجانب الكبير، كلٌّ يناجي ربه، ويطلب منه الهداية والتوفيق والإعانة، وقد تناسوا أنسابهم، وتركوا أحسابهم، وتوجَّهوا إلى ربِّهم، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا.
ففي هذا الاجتماع الرهيب يتجلى جلال الإيمان، وتَشيع رُوح الإسلام، وتظهر أنوار التقى، ويستجيب الله دعاء المصلين، ويغفر زلاتهم حين يؤمِّنون مع إمامهم، فقد ورد في السُّنة أن الملائكة تصطف مع صفوف المصلين وتسمع لقراءة الإمام، حتى إذا قرأ الإمامُ الفاتحة وبلغ قولَه: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7] قالت الملائكة: آمين، فمن وافق تأمينُه تأمين الملائكة، خرج من صلاته وقد غفر الله له ذنوبه[13].
[1] المسمَّى بـ(ديوان بُغية الخطباء والواعظين)، النَّاشر مؤسسة غراس للنشر والتَّوزيع، الكويت الطبعة الأولى عام 1422 – 2002 من مجلَّدين، ويتكوَّن الديوان من مائة وسبع خطبة في مختلف المناسبات والأحوال، وللكتاب قصة حدثني بها ولده الشيخ محمد الكمالي، فقد ألفه عام 1956 ولكنه فقده، وكان يذكره ويحزن لفقدانه، وبعد وفاته عام 2006 عثر عليه في مكتبته، فسارع ورثته إلى طبعه ونشره، وقد قام الشيخ محمد الكمالي بنشره بين الخطباء مجانًا في دائرة أوقاف عجمان.
[2] الترجمة مختصرة من موقع الدليل التثقيفي للشيخ الكمالي، للأستاذ مرشد الشيزاوي، وقد تضمن مقالات عدة في رثاء الشيخ، منها مقالة للدكتور عبدالرؤف الكمالي والدكتور محمد العوضي، وخطبة مكتوبة وأبيات رثاء قيلت في الفقيد وغير ذلك مما تضمنته المدونة.
[3] تنسب هذه المدرسة للشيخ محمد بن كمال بن عبدالرحمن الحجازي عام 1159 طلب العلم في الأزهر ودرس على الشيخ عبدالله الشرقاوي، ومكث عشر سنوات، وهو من أسس المدارس في خصب (سلطنة عمان) وفي جزيرة قشم، كانت له مواقف في رفع الضرائب عن أهل الجزيرة والتي فرضها السلطان سعيد بن سلطان، توفي عام 1254 من شعبان، انظر (تاريخ لنجة) ج1 ص 218، وانظر كتاب (منظومة شهود الحق) تأليف العلامة الشيخ عبدالرحمن الكمالي – رحمه الله – ص30 وما بعدها، الناشر دار الكتاب العربي الطبعة الأولى 1409-1989 والمدرسة واقعة في قرية بند حاج علي غربي مدينة قشم بـ 40 كيلو مترًا، تخرج منها عشرات العلماء والأدباء والمفكرين.
[4] “المواعظ السنية لأيام شهر رمضان البهية” طبع دار الكتب العلمية ويتألف من 138 صفحة، وهو من عنوانه، ينفع الواعظ في دروسه في شهر رمضان المبارك، ويتميز بالوضوح وسهولة تناوله للمواضيع، وقد طبع طبعة حديثة ومنقحة قبل وفاته بنحو ثلاثة أشهر، وسُرَّ به سرورًا عظيمًا والحمد لله، ومن أواخر مؤلفاته التي طبعت حديثًا للمرة الأولى “ديوان بغية الخطباء والواعظين ومنار الهدى للمتعظين” ذكر ذلك عبدالرؤوف الكمالي، والشيخ عبدالرؤوف من مواليد الكويت الجهراء عام 1965 ويعمل في الهيئة العامة للتعليم التطبيقي – كلية التربية الأساسية، له العديد من الكتب والأبحاث، تجدها على موقع الهيئة للتعليم.
[5] ديوان يحتوي على جملة من الخطب والمواعظ المنبرية التي تعالج الشؤون الدينية والمشاكل الاجتماعية بالحكمة والموعظة الحسنة، مُقسمة على حسب شهور السَّنة، نشر المكتبة العلمية عام 1982.
[6] بغية الواعظين عبارة عن شرح لأركان الإسلام، اعتنى بنشره عبدالرؤوف يحيى الكمالي، ونشر ببيروت دار البشائر الإسلامية عام 1430 – 2009.
في أوله كلمات مضيئة عن الشيخ الكمالي في عيون أصحابه، واشتمل على ملحق خاص بالصور والوثائق من ص349 – 363.
[7] محمد عبدالرحمن الكمالي عضو اللجنة الإدارية للمركز ورئيس الشؤون الإسلامية بعجمان، وله جهود في خدمة بيوت الله وطلبة العلم.
[8] من أقدم مساجد الكويت مسجد الجهراء القديم، وقد تم بناؤه في عام ١٩٥٢م ويقع بجانب مدرسة كاظمة القديمة، وهي أول مدرسه بالجهراء، وكذلك بالقرب من مزرعة الشريم ومزرعة الهطنفل، وقد تم تغيير اسم المسجد إلى مسجد الشيخ عبدالرحمن الكمالي – رحمه الله – وهو إمام هذا المسجد منذ نشأته، قال البصيري في اقتراح برلماني: “تقديرًا ووفاءً للشيخ المرحوم عبدالرحمن الكمالي الذي أمَّ المصلين في مسجد الجهراء القديمة منذ عام 1955 حتى تاريخ وفاته يناير 2004، ووفاء لهذا الشيخ الجليل بتخليد ذكراه العطرة عندما يحمل مسجده اسمه الذي أمَّ المصلين فيه زهاء 53 عامًا وأكثر من نصف عمره، اقترح تغيير مسمى مسجد منطقة الجهراء القديمة إلى مسجد الشيخ عبدالرحمن الكمالي اعتبارًا من 18/ 4/ 2004″؛ انظر موقع تاريخ الكويت، المعلومات العامة.
[9] “وما جلست في مكان أو كلمني عنه أحد إلا وأبدى محبته الجمة الصادقة له، في الجهراء وغير الجهراء، الأغنياء والفقراء، الصغار والكبار، فأتذكر بذلك قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى إذا أحب عبدًا، دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله تعالى يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض))” من ترجمة للشيخ بقلم عبدالرؤوف الكمالي.
[10] انظر ديوان بغية الخطباء والواعظين، النَّاشر مؤسسة غراس للنشر والتَّوزيع، الكويت الطبعة الأولى عام 1422 – 2002 ص 11 وما بعدها.
[11] المصدر السابق ص 19 وما بعدها.
[12] المصدر السابق، الخطبة الثامنة والعشرون، ص 296.
[13] جزء من خطبة بعنوان “في حكمة مشروعية الصلاة”، الجزء الأول ص 191، وفي الخطبة يتجلى براعة الشيخ في خطاب المدعوين وبأسلوب يناسب مستواهم ومداركهم، وتأمل كيف تدرج الشيخ في تسلسل المعلومات حتى وصل بهم إلى النتيجة المطلوبة، وهي فرضية الصلاة والحكمة من مشروعيتها، وهو ما ينبغي على الواعظ أن يسلك هذا المسلك في الدعوة والوعظ والإرشاد، وقد ذكرنا جملة من القواعد الهامة في الدعوة في بحث ميزات الخطبة الناجحة، والذي نشر على موقع “الألوكة”، فراجعه إن شئت غير مأمور.
Lorem Ipsum
تعليق واحد
خالد
11 سبتمبر، 2023 AT 4:04 ماللهم اغفر له وارحمه
وانفع بما كتب والف